هذه المجلة ترحب بمداد أقلامكم و كذلك بما ترونه مناسبًا و ذا فائدة للنشر.
بامكانكم إرسال مقترحاتكم و طلباتكم و المقالات على بريد المجلة :
___________________________

قرابة نصف قرن على الإستقلال .. ماذا بعد ؟

Posted ٤:٣١ م by q8shia in التسميات:
الكاتب : علي
منتدى شيعة الكويت *
______
أهرامات الجيزة تمثل احدى عبقريات البناء الإنساني ، يرى البعض فيها صخورًا و الآخر قبورًا و الثالث تحفًا معمارية ، أنا أرى فيها سيرة الحياة ، تبدأ فارغة في المنتصف و تصل في النهاية إلى سد هذا الفراغ برأس دقيق يمثل القدرة المختزلة لكل هذه الاحجار التي وضعت تدريجيًا حتى وصلت للقمة ، و بعد القمة تبدأ بذلك النزول إلى أن تصل إلى الفراغ الأكبر في القاعدة بنفس الوتيرة .
الآن [1] تمر ذكرى 48 سنة على الإستقلال و هذه فترة بأعمار الدول بل و حتى الإنسان تعتبر قصيرة نسبيًا و لكنها قياسًا بالكويت اليوم تعد إشارة لكل نظريات الهِرم التي صاغها علماء الإجتماع ، قبل سنة او بالتحديد سنة و شهرين من الآن احتفلت مجلة العربي بمرور 50 سنة على إصدارها ، صحيح أنها بدات بالصدور قبل الإستقلال التام و لكنها واكبت و زاملت تلك الأيام ، كم كنت أتمنى لو قامت الحكومة أو طالبها أعضاء مجلس الأمة بتوزيع ذلك العدد على كل بيت في الكويت بالمجان حتى يقرأ الشعب ذكريات الكتاب و الأدباء و المثقفين الذين قاموا ببناء صرحها و أشادوه في صورة تمثل أبلغ الكمالات لعنفوان الدولة الناهضة و أنا اجزم صادقًا أنه لن يضع أحدهم المجلة إلا و الكمد و الحسرة تقطع أنفاسه على ما يراه الآن من نقيض هذا العنفوان من شيخوخة مبكرة .
سار المجتمع الكويتي بخط تطوري صعد تدريجيًا و لكنه استعجل نهاية السباق فوصل قمته مع اعلان الاستقلال و صياغة الدستور المدني الذي كفل الحريات في وسط مجتمعات لم تزل متدنية في مستوى استيعابها لهذه الوقائع و الاحداث ، و لكن كما يبدو كان هذا التطور مجرد اقتباس سابق لأوانه من الدول الحديثة ، كان تطورًا فكريًا ' نخبويًا ' تناسى في غمرة صراعه أن المجتمع في عاداته و اعتقاداته لا زال متأخرًا عن استيعابه لهذه الامور بشكلها الكامل ، لو أخذت رجلاً من القرون الوسطى في عصور الإقطاع و اتيت به في خضم هذا العالم الحديث ذو الحقوق و الواجبات المدنية و الحريات فإن هذا الشخص لن يمانع هذه الحرية التي وصل لها و لكنه لن يتنازل عن قيم الاقطاع التي وقع تحت تأثيرها في تعامله مع باقي الناس ، اختلافه سيظهر جليًا و إن ادعى رضاه بالديمقراطية و المدنية و ما فيها و لن يمانع أبدًا من العودة لما كان عليه ، و لكن لو عكست الحال و اتيت برجل من هذا العصر و وضعته في عصور الإقطاع فلن يستطيع التعايش أبدًا ، اختلاف المعيشة و تطور الفكر الذي حصل نتيجة مخاض عسير من الصراعات و الحروب عند الإنسان الحديث سيما في أوروبا و الغرب أولد قيما تعد كالأرقام الثابتة في الرياضيات غير قابلة للتنازل عنها او تغييرها و منها الحرية و الديمقراطية .
يتحدث د. علي الوردي عن هذه الأزمة : « من طبيعة القيم الإجتماعية التي تسود الناس فترة طويلة من الزمن أنها لا تتغير بنفس السرعة التي تتغير بها ظروفهم » ، و أطلق على هذه الظاهرة في علم الإجتماع اسم (التناشز الإجتماعي) ، لم يكن المجتمع الكويتي سوى قرية صغيرة تغلق أسوارها بعد صلاة العشاء يتجمع تجارها في جبلة و الكادحين من سكانها مختنقون في فرجان شرق و الأواسط ما بين هاتين المنطقتين متوزعون ، و هذا هو الخطأ الاول حين تم الإتيان بفكر مدني بكل ما يحمله من مفردات المساواة و الحريات ليتم تطبيقه في مجتمع لازال يؤمن بفوقية التاجر الذي يأكل اللحم و دونية من أدامهم لا يتعدى المموش و السمك ، مجتمع يهاب الفداوي و خيزرانته و يعيش في كانتونات مقسمة تدور بين التجار و السلطة الحاكمة مداولات الديرة و يبات الشعب باحثا عن "نوخذة" يكفلهم [2]، لم تكن هذه المدنية القادمة متناسقة مع قدرة المجتمع على تقبلها ، لم يستطع 'الكبار' ان يهضموا هذا التغير الذي يزيحهم من بروجهم و يساويهم بعامة الشعب في كسر لا يجبر لقيم عشائرية سادت طويلاً ، لذلك بمجرد ذهاب سكرة هذا الإنطلاق بدأت الألاعيب تمارس لإعادة الأمور كما كانت عليه سابقًا و قد نجحت للأسف في كثير من الأمور و كم من قانون معطل و مادة دستورية دفنها الغبار لازالت موجودة إلى اليوم دون تطبيق حفاظاً على بعض الفروق كرامةً لأولئك.
و لكن هذا كله كان بالإمكان التغلب عليه بمرور الزمن و بالحفاظ على سير عملية التطبيق على علاتها لانها في النهاية ستولد قيمًا جديدة ، في الوقت الذي وقف فيه بعض النواب و ذهبوا لتقبيل 'خشوم' الوزراء من الأسرة في الستينات عندما دخلوا قاعة البرلمان ، وقف هؤلاء النواب مع الشعب في موقف المطالبة و المعارضة لإرجاع الديمقراطية في الثمانينات و هذا مؤشر على التحول و تغير القيم نتيجة التطور الذي طال فكر المجتمع و لو أنه كان تطورًا بسيطًا في ظاهره ، و يؤكد ذلك حين حديثه عن هذا التناشز د. علي الوردي و يستشهد بأسلوب الملك فيصل في العراق الذي عمد إلى التثقيف التدريجي للشعب بدأه في المدن و استطاع أن يحقق نجاحًا كبيرًا و لكن قيم السلطة العشائرية التي أصبحت لعبة تجيدها القوى السياسية لتنفيذ مخططاتها المرسومة لها استطاعت إزاحته ليعيد صدام في النهاية الكرة إلى ملعبها الأول [3].
ما مرت به الكويت كان عنفوانًا سريعًا أوصلها إلى شيخوخة مبكرة ، كان تطورًا مستعجلاً لم يستطع أن يحافظ على ثباته فوصل لخط النهاية قبل أوانه كما يقول الإنجليز : ما يأتي سريعًا يذهبُ سريعًا ، و هذه من طبيعة الأشياء أنها متى ما وصلت إلى القمة بدأت بالانحدار بنفس السرعة التي وصلت بها و لكن عجلة التسارع زادت بسبب الغزو الذي دق المسمار الأخير في النعش لمّا بات الكويتي ' كويتيًا ' ليصحَ على صوت عبد الحكيم زعلان و هو ينادي أبناء المحافظة التاسعة عشر ، أصبح الهمَّ اليوم عند الكثيرين هو ضمان مستقبلهم لأن شعورهم بوجود الدولة أصبح منعدمًا ، فالموجود الآن هو هيكل دولة أو بالأحرى أطلال دولة الكل يبحث فيها صيدٍ يعشي به أطفاله ، و إن لم تكن الفكرة ظاهرة على محياهم إلا أنها مغروسة في وجدانهم و باطنهم ، لم تعد مشكلة الموازنة بين القيم هي علاج شيخوخة الدولة و لكن مشكلة إيجاد معنى الوطن و الدولة في النفوس قبل كل شيء ، الكثيرون ارتكبوا جرائهم حين غابت الدولة في الغزو ظنًا منهم بانها لن تعود و لكنهم تمادوا حين رؤوها عادت و لكن بجنحان منكسرة يُبّرء السارق فيها و يتباكى السهران في كازينوهات الهرم على صيامه الذي يضطر لابطاله من شدة عطشه نظرًا لعلو صوته في دفاعه عن حقوق الشعب (!) و ينصب مدعي الدين فيها وصيًا على الشعب و هو يبيع الخمور ، و الآخر ينتخب نفس عضوًا في مجلس يمثل دولة يعتبر أن عيدها الوطني " يومًا وثنيًا " و أن عَلَمها لا يستحق حتى الإحترام و لم يعمد أحد إلى جبر هذه الكسور .. حينها لا نلومُ الشعب الضايع بالطوشه على حالة الضياع التي يعيشها بل قد نجد لهذه الحالة تبريرًا !
بعد 48 سنة على الإستقلال و 18 سنة على التحرير آن الاوان لان يتم تقييم الامور بدلاً من تغطيتها بأقنعة الكلمات ، لم تعد الشعارات و الأشعار و الدعوات الوطنية الخالية كافية لان تغطي عورة المستوى الذي وصلنا له عطفًا على البداية التي بداناها و قادت الكويت إلى أن تصبح درة الخليج في زمنٍ قصير انتهى .الأعياد الوطنية ليست مجرد أيام يُحتفل بها و تُذاع بها الأغاني ، بل هي أيام يستذكر بها مسيرة الدول ، لا يعني أن لا نفرح بها و لكن تعني أن لا نلجأ لهذه الإحتفالات حتى نخفي التصدع الحاصل تحت رغوات علب الصابون .


و الحديثُ ذو شجون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] استقلال الكويت الفعلي كان في 19/6/1961 ، و لكن تكريمًا للامير الراحل الشيخ عبد الله السالم تم اختيار يوم إمارته عيدًا وطنيًا للشعب لأنه أبو الاستقلال و الدستور .
[2] قبل مدة نشرت القبس وثيقة تاريخية يحصل فيها ( بن هويدي ) على براءته من ( النوخذة ) ، لتكون صك نجاته !شاهد الوثيقة :
اضغط هنا .
[3] الواقع أن الكويت نتيجة لهذا التناشز الإجتماعي و ما ترتب عليه من صراع سياسي واضح في نهاية الستينات و السبعينات و ما ترتب عليه من سياسة التجنيس و غيرها أصابتها ردة حضاريّة واضحة ، من طبيعة المجتمعات البشرية أنها بحسب ما يقوله ابن خلدون تعاني صراعا ما بين البداوة و الحضارة و هذا الصراع يستلزم في احدى مراحله أن تُصاب المجتمعات بحالة من التفسخ و الإنحلال الأخلاقي و لا أظن أن ما يحدث الآن يخرج من هذه الدائرة و العياذ بالله .

_____

* المصدر



0 تعليقات “قرابة نصف قرن على الإستقلال .. ماذا بعد ؟”
تنويه :
جميـع ما يُنشر هنا لا يمثل الرأي الرسمي للموقع و مالكه المادي بل هي آراء للكتاب وهم يتحملون تبعة آرائهم ، وتقع عليهم وحدهم مسؤولية الدفاع عن أفكارهم وكلماتهم .